الشباب البحريني والسعودي يؤبنون محمد عبدالوهاب العريض

غاب ذاك النجم ليحلق في السماء. شاب عشق حياة عصرته، كان يخطو هنا، يركض هناك، حيث الأحبة والأصدقاء.
غاب محمد في ليلة ظلماء، بكته القلوب وخلدته.. خلدته ليلة على الضفة الشرقية وأخرى بين محبيه على ضفة الخليج الأخرى.
كانت أمسية تألق فيها الفقيد محمد عبدالوهاب العريض الذي ذهب ضحية حادث مؤلم في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية منتصف شهر أبريل/ نيسان الماضي.
مساء الخميس الماضي، أبنه أحبته وأصدقاؤه من البحرين والسعودية في مقر جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد).

في البدء كانت كلمات والده عبدالوهاب الذي رثاه بقصيدة حملت عنوان " محبرة تنتحب" القاها صديق دربه الشاعر والكاتب أحمد الملا :
''عِنْدَمَا يَغْتَسِلُ الصُّبْحُ مِنْ شَفَةِ القَهْوَةِ، أُمْسِكُ الحَرْفَ النَّازِفَ خَلْفَ المِحْبَرَةِ،
أَنْظُرُ بَعِيدَاً لَعَلِّي أَتَعَثَّرُ بِرَائِحَةِ الفِنْجَانِ الَّتي خَلَّفَهَا المَسَاء.
كَانَ اللَّيلُ طَوِيلاً، وَ النَّهَارُ يَنْسَحِبُ مِنْ بَيْنِ الأَصَابِعِ كَقَطْرَةِ مَاءٍ خَلَّفَهَا نَهْرٌ عَابِر.. هَمَسَ الوَقْتُ فِي جَيْبِهِ فَأَخْرَجَ مَا تَبقَّى مِنَ المَحْبَرةِ.
صُرَاخُ طِفْلٍ نَائِمٍ يُوقِظُ جَسَدِي فِي الصُّبْحِ، وَ العُيُونُ الَّتي تَجُوبُ المَكَانَ بَحْثَاً عَنِّي أَصْبَحَتْ تُؤلِمُنِي
كَمْ يَتَعَلّْقُ عُمْرِي بِهَذِهِ النَّظْرَةِ التَِّي مَا عُدْتُ أَرَاهَا مِن سِوَاه.
في عُيُونِهِ لَمْحَةٌ مِنْ بُكَاءْ.. وَفِي وَجْهِهِ بَقَايَاَ مِني حَمَلَنِي بَيْنَ كَفْيّهِ، عَلَّقَ اللَّوْحَةَ فِي الجِدَارِ وَنَسِيَ أَنْ يَضْرِبَ المِسْمَاَرَ فِي جَسَدِي.
ضَحَكَاتُ عَيْنَيْهِ تَكْشِفُ عَنْ سَذَاجَتِي أَحْيَانَاً، وَ لمَعَانٌ يُشْعِرُنِي بِأَنَّهُ لاَزَالَ يَنْتَظِرُ عَوْدَتِي.
كَانَتْ الجُمُوعُ مُحْتَشِدَةً لَحْظَةَ الوَحْشَةِ.. الكُلُّ يَعْبُرُ، وَ الْكُلُّ يَرْحَلُ.. أَسْنَدنِي مِنْ جَنْبٍ ..كَانَ يُوجِعُنِي وَ رَاحَ يَشْهَقُ فِي البُكَاءِ.. حِينَهَا عَرَفْتُ بِأَنَّهُ مَازَالَ يَحْمِلُ قَلْبَ طِفْلٍ بِحَاجَةٍ لِحَنِينٍ أَكْثر.
كَانَ الجِدَارُ يُسْنِدُنَا.. ثَلاثَةٌ اتَّكَأَ الصُبْحُ عَلَى أَرْجُلِهِم، وَمِنْ بَيْنِ عُيُوِنِهِمْ اخْتُزِنَتْ الدُّمُوعُ.. مَنْ كَانَ يَنْظُرُ هُنَاكَ يَعْرِفُ بِأّنَّهُم لاَزَالُوا يَشْهَقُونَ بِالبُكَاءِ وَ النَّحِيبِ المَنْسِي.
عَيْنَاهَا حَمَلَتْ صَمْتَ المَدِينَةِ، وَ فِي وَجْهِهَا قَلَّبْتُ كُلَّ اللَّحَظَاتِ
قَاوَمْتُ بُكَاءَهُ كُلَّ اللَّيَالِي، وَ حِينَ حَضَرَ عَانَقَتُه وَ بَكَتْ،
لَمْ تَسْتَطِع مُقَاوَمَةَ اللَّحَظَاتِ، فَرَاحَتْ تَهْرُبُ دَاخِلَهُ وَ تُخْفِي صَمْتَهَا،،
تُخْفِي بُكَاءَهَا بِشَهِيقٍ لَا يَنْتَهِي.. وَ حُلُمٍ لَا يَتَوَقَّفْ.
مَنْ قَاوَمَ النَّوْمَ فِي جَسَدِهِ هَذَا الصَّبَاحْ ؟ حَمَلَ جَيْبَهُ وَ الْقَلَمَ وَ عَبَرَ بَيْنَ المَرَايَا كَغَرِيبٍ جَرَّحَتْهُ المَرَايَا الصَّقِيلَةُ لِلْأَبْوَابِ المُوَارَبَةِ فِي ذَاكِرَتِهِ.''.

 


وفاء فنان
الفنان العراقي المعروف رضا الخياط فاجأ الحضور بمشاركته قبل الحفل بأن طلب إدراج أسمه ضمن برنامج الحفل حيث قام بتعريف نفسه لإعادة تنشيط ذاكرة بعض الحضور بأنه الفنان العراقي القديم رضا الخياط صاحب تلك المواويل والأغاني التي أدخلها على الساحة العراقية منذ بداية السبعينات ، كما قام بالحديث عن الشاب (محمد العريض) الذي فاجأه بتجميع أغاني كان يفتقدها وأنه يؤسس موقع باسم أصدقاء الفنان رضا الخياط ، وحينها بداء التواصل معه قبل عام أو أكثر وكانت الاتصالات بينهما مستمرة بين رسالة هاتفية لازالت حاضرة في جهازه ، وتلك الابتسامة التي تميز بها محمد العريض ، وكذلك الاحترام والهدوء في شخصية تحمل كل معاني الصدق والوفاء لأصدقائه ، بعد ذلك قدم موال حزين بمرافقة العواد محمد العبيدلي أبكي فيها الحضور بكلماته الخاصة بالفقيد .
التميز وقمة التواضع

 


جمعية الشباب الديمقراطي البحريني نعت محمد ورثت واحداً من شبابها المميزين:
''قبل بضع شهور ودعنا صديقاً عزيزاً على قلوبنا، ودعناه في غفلة من إرادتنا، الرفيق العزيز حامد الملا، وها نحن نلتقي اليوم لوداع عزيز آخر، نلتقي لوداع الفقيد الشاب محمد عبدالوهاب العريض، الذي أبعده القدر عنا يوم 15 من شهر أبريل لهذا العام. نلتقي في هذه الأمسية الدافئة التي نقدم فيها كل ما أمكن من تعابير الحب والوفاء لشخص تبقى روحه تؤثر بيننا، وتظل صورته تظهر في مخيلتنا. بدايات محمد بيننا في الشباب الديمقراطي وبين شباب وعد كانت في المخيم الربيعي الثالث الذي كان فيه الفقيد أحد أعضاء طليعة الشهيد محمد غلوم وأحد أنشط الأعضاء فيها. نتذكره حين كان يثابر لإصدار نشرة الطليعة بين جمع موادها والسهر على تنفيذها وتصميمها، وما كان لتلك الجهود إلا لأن تفوز الطليعة بلقب أفضل نشرة. ورأينا جميعا ممن تابع ذلك النشاط المعطاء يتجدد ويتزايد في المخيم الذي تلاه (المخيم الربيعي الرابع)، حيث كان فقيدنا وقتها عضو طليعة حركة الإصلاح، والتي ثابر فيها لإصدار جميع مطبوعاتها والعمل على تصوير جميع نشاطات المخيم بالعدستين الثابتة والمتحركة، فهو كان يستمتع بذلك الأداء الصامت ويبهر الجميع بقدرته على الإنجاز البعيد عن الصخب والأضواء. وتتواصل الذاكرة معه في لقاءات متفرقة تجمعنا بالفقيد في أنشطة أو اجتماعات أو سمرات متى ما سنحت الفرصة له أن يمتطي عطلته ويعبر المسافة إلينا.
من كان يلتقي الفقيد محمد العريض، يلحظ منه ثقته التي لا تنال من تواضعه، ويرى فيه انضباطه الذي لا يتعدى على بساطته''.
تقر جمعية الشباب بمناقبية محمد والتزامه ''هو نموذج تفتقر إليه جمعيتنا، تفتقر إلى الطاقات التي تعمل بجد وتنتج بهدوء، تفتقد إلى جنود يعشقون العمل من خلف الستار، فكم نحن بحاجة إلى نشطاء يتواضعون بما يملكون وما يفعلون، كم نحن بحاجة إلى مثل محمد العريض وحامد الملا (..) تعلمنا بأن هناك من يقدمون لنا الكثير دون أن ينتظروا منا المقابل، تعلمنا بأن العطاء في الحياة يجب أن يكون لأجل إرضاء الذات لا لإشباعها (..) نتذكر تلك الكلمات التي رثينا فيها صديقنا الفقيد حامد الملا، التي تعبر اليوم عن نفس الرثاء لصديقنا الآخر محمد العريض الذي سيخلد في ذاكرة لا تخضع للنسيان''.

 

 

علي الدميني يؤبن من وراء الحدود
لم يتمكن الشاعر علي الدميني من الحضور، لكن علي.. ارسل كلماته في أمسية الوفاء.. فألقتها منار عبدالباقي.
''يا أبا محمد
يا صديقي.. لا نعزيك وعائلتك فقط في غياب محمد
وإنما نواسي أنفسنا.. ونربيها على احتمال الفقد النبيل
يا صديقي لم يكن ''محمد العريض'' ابنك وحدك، وإنما هو ابننا وصديقنا
جميعا..
لم تفجع وحدك، رغم قوتك وتماسكك المهيب، وإنما فجعت الساحات التي كان يمر فيها، والشوارع التي كان يعبرها، والبيوت التي غرس فيها زهرة الزمان، ولذعة الصدق والصداقة والمحبة..وفي كل ركن عبرت خطاه إليه..
باب بيتنا كان يتألم..
أعشاب الحديقة التي كان يلاطفها بكت على فراقه،
الكراسي التي كان يقتعدها تساءلت عن غيابه..
''اللاب توب'' الذي كان يحتضنه وهو يدخل إلى بيت الشباب يصرخ: أين صديقي؟؟
أصدقاؤه وصديقاته في بيت الشباب مازالوا يحملونه شعلة منيرة في ضمائرهم
ومشاعرهم
كأجمل الهدايا وأعذب الأمنيات.
نسمة عذبة كان يأتي محمد
وبوداع حميم كان يغادر محمد
يرتب اللقاءات، ويحلم كثيرا مثلك بجمع الناس حول موائد الألفة والتعاون والمحبة والبناء. لم يكن يعلن عن غياب البعض، ولا تراخي البعض في أداء بعض مهامهم، فلديه القدرة دائما على أن يكون الحاضر البهي عن ذاته، وعنهم..
من كان يوقد حجر المكان..
ومن كان يحرص على حضور كل الأصدقاء
ومن كان يتسلل كالماء بين الأصدقاء والزوار، ناشرا زهر عطائه
الهادئ
وعذوبته العميقة
لم يكن أحد سوى محمد العريض.
لكأننا وهو يحضر بيننا بهذا الألق
أن نقول
لعله ذهب إلى مهمة ما،
أو أنه غادرنا قليلا
ولكنه مازال يحرك فينا كل يوم ما زرعه
في حياتنا من جمال، وخصوصا في ''بيت الشباب'' من قيم الحب والتضحية والتفاني
في أداء دوره
بهدوء نبيل وجميل
لا يشبه أحدا
سوى محمد.
عشنا وعاشت بناتنا وأبناؤنا تجربة فقد قاسية،
وحالة وفاة نادرة
وأياماً لا تنسى من أسى حزن لم يعتادوه
ولكن محمد العريض
قد صمم على أن يكون جزءا حاضرا
ودائما بيننا
اشتغل بفطرته الإنسانية السوية على صنع جمالياته النبيلة والصداقة والشفافة كما هي،
محمد انشغل بالآخرين أكثر من اهتمامه بذاته،
ولذا نجده أمامنا في كل مكان..نراه شجرة ضخمة وأنيقة وعذبة من الجمال،
نتأملها كل صباح
فلم يغب محمد
بل سافر
لم ينته محمد
بل ابتدأ
وهو بيننا في كل لحظة
فله محبتنا
وله ذاكرة مفتوحة تطل عليه في مفاوز الجمال
فمن يمتلك مثلك يا محمد
كل هذا الصدق الجميل،
وكل هذا الحضور البهي؟؟
في القلب والذاكرة
في المساء والصباح
في أكرة الباب
وفي شكل الكرسي؟؟
أغبطك على كل هذا البهاء
يا حبيبنا محمد العريض
وأغبط أبويك
على كل هذا النقاء
وكل ما يحملانه من
معالم القوة والصبر
والوفاء''.


''بالجنة لك ادعي''
يعزف العواد وترا حزينا يرثي محمد ومناقبيته العالية، فيما الجمهور يئن بصمت.. يجيء الشاب محمد العبيدلي بمواله الحزين ''بالجنة لك ادعي''، يسود صمت طويل بين الحضور الذي ميزه كثافة الشباب البحريني والسعودي في قاعة فلسطين.. كان الجميع يصدح بموال في داخله.

 


في العزف الرثائي يكون العود سيدا، وتكون الصورة مشهدا يخلد محمد العريض.


في فقرة الليلة الحزينة الأخيرة، كان عماد عبدا لباقي يصدح بأوتار العود بمصاحبة والده محمد عبدا لباقي اللذان تغنيا من شعر علي الدميني بأغنية ''ياصاحبي''. ليسدل الستار على ليلة وفاء لمحمد عبدالوهاب العريض.